فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شعَيْبا}.
متعلق بمضمن معطوفٍ على أرسلنا في قصة نوحٍ عليه السلام أي وأرسلنا إلى مدينَ شعيبا {فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله} وحدَه {وارجوا اليوم الآخر} أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون غائلتَه وقيل: وارجوا ثوابَه بطريق إقامة المسبب مقامَ السبب وقيل: الرجاء بمعنى الخوف {وَلاَ تَعْثَوْا في الأرض مفْسدينَ} {فَكَذبوه فَأَخَذَتْهم الرجفة} أي الزلزلة الشديدة وفي سورة هود وأخذت الذين ظلموا الصيحة أي صحية جبريلَ عليه السلام فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من الأرض {فَأَصْبَحوا في دَارهمْ} أي بلدهم أو منازلهم والإفراد لأمن اللبس {جاثمين} باركينَ على الركب ميتينَ.
{وَعَادا وَثَمودَ} منصوبان بإضمار فعلٍ ينبىء عنه ما قبلَه أي أهلكَنا. وقرىء ثمودا بتأويل الحي {وَقَد تبَينَ لَكم من مساكنهم} أي وقد ظهرَ لكم إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهابا إلى الشام وإيابا منه {وَزَينَ لَهم الشيطان أعمالهم} من فنون الكفر والمَعاصي {فَصَدهمْ عَن السبيل} السوي الموصل إلى الحق {وَكَانوا مسْتَبْصرينَ} ممكنين من النظر والاستدلال ولكنهم لم يفعلوا ذلك أو متبينين أن العذابَ لاحق بهم بإخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا {وقارون وَفرْعَوْنَ وهامان} معطوف على عادا. قيل: تقديم قارونَ لشرف نسبه {وَلَقَدْ جَاءهمْ موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وَمَا كَانوا سابقين} مفلتينَ فائتينَ من قولهم سبقَ طالبَه إذا فاتَه ولم يدركه ولقد أدركَهم أمر الله عز أي إدراكٍ فتداركوا نحوَ الدمار والهَلاَك {فَكلا} تفسير لما ينبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام أي فكل واحدٍ من المذكورينَ {أَخَذْنَا بذَنبه} أي عاقبناه بجنايته لا بعضه دون بعضٍ كما يشعر به تقديم المفعول {فَمنْهم من أَرْسَلْنَا عَلَيْه حَاصبا} تفصيلا للأخذ أي ريحا عاصفا فيها حصباء وقيل مَلَكا رماهم بها وهم قوم لوطٍ {وَمنْهمْ منْ أَخَذَتْه الصيحة} كمدينَ وثمود {وَمنْهمْ منْ خَسَفْنَا به الأرض} كقارون {وَمنْهمْ منْ أَغْرَقْنَا} كقوم نوحٍ وفرعونَ وقومه {وَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهمْ} بما فعل بهم فإن ذلك محال من جهته تعالى: {ولكن كَانوا أَنفسَهمْ يَظْلمونَ} بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من أنواع الكفر والمَعاصي. اهـ.

.قال الألوسي:

{وإلى مَدْيَنَ} متعلق بأرسلنا مقدر معطوف على {أرسلنا} [العنكبوت: 14] في قصة نوح أي وأرسلنا إلى مدين {أخاهم شعَيْبا فَقَالَ} لهم {يا قوم اعبدوا الله} وحده {وارجوا اليوم الآخر} أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون به غائلته، أو الأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب عليه الرجاء إقامة للمسبب مقام السبب، وفي الكلام مضاف مقدر فالمعنى افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر، وجوز أن لا يقدر مضاف، وإرادة الثواب من إطلاق الزمان على ما فيه، وقيل: الأمر برجاء الثواب أمر بسببه اقتضاء بلا تجوز فيه بعلاقة السببية.
وقال أبو عبيدة: الرجاء هنا بمعنى الخوف والمعنى وخافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله تعالى منكم إن لم تعبدون {وَلاَ تَعْثَوْا في الأرض مفْسدينَ} حال مؤكدة لأن العثو الفساد {فَكَذبوه} فيما تضمنه كلامه من أنهم إن لم يمتثلوا أمره ونهيه وقع بهم العذاب وإليه ذهب أبو حيان، وقيل: من أنه تعالى مستحق لأن يعبد وحده سبحانه وأن اليوم الآخر متحقق الوقوع أو نحو ذلك.
{فَأَخَذَتْهم} بسبب تكذيبهم إياه {الرجفة} أي الزلزلة الشديدة وفي سورة هود {وَأَخَذَت الذين ظَلَموا الصيْحَة} [هود: 94] أي صيحة جبريل عليه السلام فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من الأرض، وفسر مجاهد الرجفة هنا بالصيحة، فقيل: لذلك؛ وقيل: لأنها رجفت منها القلوب {فَأَصْبَحوا في دَارهمْ} أي بلدهم فإن الدار تطلق على البلد، ولذا قيل: للمدينة دار الهجرة أو المراد مساكنهم وأقيم فيه الواحد مقام الجمع لأمن اللبس لأنهم لا يكونون في دار واحدة، ولعل فيه إشارة إلى أن الرجفة خربت مساكنهم وهدمت ما بينها من الجدران فصارت كمسكن واحد.
{جاثمين} أي باركين على الركب، والمراد ميتين على ما روى عن قتادة.
وفي مفردات الراغب هو استعارة للمقيمين من قولهم: جثم الطائر إذا قعد ولطىء بالأرض ويرجع هذا إلى ميتين أيضا.
{وَعَادا وَثَمودَ} منصوبان بإضمار فعل ينبىء عنه ما قبله من قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهم الرجفة} [العنكبوت: 37] أي وأهلكنا عادا وثمود، وقوله تعالى: {وَقَد تبَينَ لَكم من مساكنهم} عطف على ذلك المضمر أي وقد ظهر لكم أتم ظهور إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم أو بسببها.
وذلك بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهبا إلى الشام وإيابا منه، وجوز كون {منْ} تبعيضية، وقيل: هما منصوبان بإضمار اذكروا أي واذكروا عادا وثمود.
والمراد ذكر قصتهما أو باضمار اذكر خطابا له صلى الله عليه وسلم، وجملة {قَد تبَينَ} حيالية، وقيل: هي بتقدير القول أي وقل: قد تبين، وجوز أن تكون معطوفة على جملة واقعة في حيز القول أي اذكر عادا وثمود قائلا قر مررتم على مساكنهم وقد تبين لكمن الخ، وفاعل تبين الإهلاك الدال عليه الكلام أو مساكنهم على أن {منْ} زائدة في الواجب، ويؤيده قراءة الأعمش {مساكنهم} بالرفع من غير من، وكون {منْ} هي الفاعل على أنها اسم بمعنى بعض مما لا يخفى حاله.
وقيل: هما منصوبان بالعطف على الضمير في {فَأَخَذَتْهم الرجفة} [العنكبوت: 37] والمعنى يأباه، وقال الكسائي: منصوبان بالعطف على الذين من قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنا الذين من قَبْلهمْ} [العنكبوت: 3] وهو كما ترى، والزمخشري لم يذكر في ناصبهما سوى ما ذكرناه أولا وهو الذي ينبغي أن يعول عليه.
وقرأ أكثر السبعة {وَثَمودَا} بالتنوين بتأويل الحي، وهو على قراءة ترك التنوين بتأويل القبيلة، وقرأ ابن وثاب {وَعَاد وَثَمود} بالخفض فيهما والتنوين عطفا على {مدين} [العنكبوت: 36] على ما في البحر أي وأرسلنا إلى عاد وثمود {وَزَينَ لَهم الشيطان} بوسوسته وإغوائه {أعمالهم} القبيحة من الكفر والمعاصي {فَصَدهمْ عَن السبيل} أي الطريق المعهود وهو السوي الموصل إلى الحق، وحمله على الاستغراق حصرا له في الموصل إلى النجاة تكلف {وَكَانوا} أي عاد وثمود لا أهل مكة كما توهم.
{مسْتَبْصرينَ} أي عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالاستدلال والنظر ولكنهم أغفلوا ولم يتدبروا وقيل: عقلاء يعلمون الحق ولكنهم كفروا عنادا وجحودا، وقيل: متبينين أن العذاب لاحق بهم بأخبار الرسل عليهم السلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا.
وعن قتادة والكلبي كما في مجمع البيان أن المعنى كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة يحسبون أنهم على هدى.
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه قال: أي معجبين بضلالتهم وهو تفسير بحاصل ما ذكر، وهو مروي كما في البحر عن ابن عباس. ومجاهد. والضحاك، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها.
{وقارون وَفرْعَوْنَ وهامان} معطوف على {عادا} [العنكبوت: 38] ، وتقدم قارون لأن المقصود تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فيما لقي من قومه لحسدهم له، وقارون كان من قوم موسى عليه السلام وقد لقي منه ما لقي، أو لأن حاله أوفق بحال عاد أو ثمود فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ولم يفده الاستبصار شيئا كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا، أو لأن هلاكه كان قبل هلاك فرعون وهامان فتقديمه على وفق الواقع، أو لأنه أشرف من فرعون وهامان لايمانه في الظاهر وعلمه بالتوراة وكونه ذا قرابة من موسى عليه السلام، ويكون في تقديمه لذلك في مقام الغضب إشارة إلى أن نحو هذا الشرف لا يفيد شيئا ولا ينقذ من غضب الله تعالى على الكفر {وَلَقَدْ جَاءهمْ موسى بالبينات فاستكبروا} عن الأيمان والطاعة {فى الأرض} إشارة إلى قلة عقولهم لأن من في الأرض لا ينبغي له أن يستكبر.
{وَمَا كَانوا سابقين} أي فائتين أمر الله تعالى، من قولهم: سبق طالبه أي فاته ولم يدركه، ولقد أدركهم أمره تعالى أي إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك، وقال أبو حيان: المعنى وما كانوا سابقين الأمم إلى الفكر أي تلك عادة الأمم مع رسلهم عليهم السلام، وليس بذاك وأيا ما كان فالظاهر أن ضمير كانوا لقارون وفرعون وهامان، وقيل: الجملة عطف على أهلكنا المقدر سابقا وضمير كانوا لجميع المهلكين، وفيه تبر للنظم الجليل.
{فَكلا أَخَذْنَا بذَنبه} هذا وما بعده كالفذلكة للآيات المتضمنة تعذيب من كفر ولم يمتثل أمر من أرسل إليه، وقال أبو السعود: هذا تفسير لما ينبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام وما بعده تفصيل للأخذ، وفي القلب منه شيء.
وكأنه اعتبر رجوع ضمير {كانوا} [العنكبوت: 39] إلى المهلكين، وقد علمت حاله وتقديم المفعول للاهتمام بأمر الاستيعاب والاستغراق، وقال الفاضل: المذكور للحصر أي كل واحد من المذكورين عاقبناه بجنايته لا بعضا دون بعض، وبحث فيه بأن كلا متكفلة بهذا المعنى قدمت أو أخرت، وأجيب بأنا لا نسلم أنه يفهم منها لا بعضا إذا أخرت وإنما يفهم منها بواسطة التقديم فتأمل، والكلام في مرجع ضمير بذنبه سؤالا وجوابا لا يخفى على من أحاط علما بما قيل في قولهم: كل رجل وضيعته.
وقولهم: الترتيب جعل كل شيء في مرتبته، وهو شهير بين الطلبة {فَمنْهم من أَرْسَلْنَا عَلَيْه حَاصبا} أي ريحا عاصفا فيها حصباء، وقيل: ملكا رماهم بالحصباء وهم قوم لوط.
قال ابن عطية: يشبه أن يدخل عاد في ذلك لأن ما أهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلو عن الحصب بأمور مؤذية، والحاصب هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء {وَمنْهمْ منْ أَخَذَتْه الصيحة} هم مدين وثمود ولم يقل أخذناه بالصيحة ليوافق ما قبله وما بعده في إسناد الفعل إليه تعالى الأوفق بقوله تعالى: {فَكلا أَخَذْنَا بذَنبه} دفعا لتوهم أن يكون سبحانه هو الصائح {وَمنْهمْ منْ خَسَفْنَا به الأرض} وهو قارون {وَمنْهمْ منْ أَغْرَقْنَا} وهو فرعون ومن معه، وذكر بعضهم قوم نوح عليه السلام أيضا.
واعترض بأنهم ليسوا من المذكورين، وتعقب بأنهم أول المذكورين في هذه السورة من الأمم السالفة، ولعل المعترض أراد بالمذكورين المذكورين متناسقين أي بلا فصل بأمة لم تفد قصتها إهلاكها، وقوم نوح وإن ذكروا أولا لكن فصل بينهم وبين نظائرهم من المهلكين بقصة صوم إبراهيم عليه السلام وهي لم تفد أنهم أهلكوا، وذكر النيسابوري أنه سبحانه قرر بقوله تعالى: {فَكلا} الخ أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الآربعة فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم، فالحاصب وهو حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر إشارة إلى التعذيب بعنصر النار، والصيحة وهي تموج شديد في الهواء إشارة إلى التعذيب بعنصر الهواء، والخسف إشارة إلى التعذيب بعنصر التراب، والغرق إشارة إلى التعذيب بعنصر الماء اه ولا يخفى ما فيه {وَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهمْ} أي ما كان سبحانه مريدا لظلمهم وذلك بأن يعاقبهم من غير جرم لأنه خلاف ما تقتضيه الحكمة.
وفي أنوار التنزيل أي ما كان سبحانه ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من سنته عز وجل، ويفيد أنه لو وقع منه تعالى تعذيبهم من غير جرم لا يكون ظلما لأنه تعالى مالك الملك يتصرف به كما يشاء فله أن يثيب العاصي ويعذب المطيع، وهذا أمر مشهور بين الأشاعرة والكلام في تحقيقه يطلب من علم الكلام.
وقد أسلفنا في تفسير قوله تعالى: {لاَ يسْأَل عَما يَفْعَل وَهمْ يسْئَلونَ} [الأنبياء: 23] ما ينفعك في هذا المقام تذكره فتذكر {ولكن كَانوا أَنفسَهمْ يَظْلمونَ} بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من الكفر والمعاصي باختيارهم، وقال مولانا اليخ إبراهيم الكوراني ما حاصله: إن ظلم الكفرة أنفسهم إنما هو لسوء استعدادهم الذي هم عليه في نفس الأمر من غير مدخل للجعل فيه وبلسان ذلك الاستعداد طلبوا من الجواد المطلق جل وعلا ما صار سببا لظهور شقائهم اه، والبحث في ذلك طويل الذيل فليطلب من محله، وتقديم المعمول لرعاية رءوس الآي. اهـ.